مر لاعب وسط الميدان الأمريكي موريس إيدو بفترة متأرجحة في حياته سادها الكثير من المد والجزر. فبعدما قرر الانقطاع عن دراسته الجامعية سنة 2007 من أجل الاحتراف داخل صفوف تورونتو إف سي، أحد أندية الدوري الممتاز بأمريكا الشمالية، بدا هذا اللاعب النشيط وكأنه يسير في الطريق الصحيح نحو بلوغ القمة. فقد حاز على جائزة "أفضل لاعب مبتدئ في السنة" بعد انقضاء موسمه الأول مع الكتيبة الحمراء، قبل أن يُتوج ذلك بانضمامه إلى تشكيلة المنتخب الوطني الأمريكي على مدى مباريات متعددة أبلى فيها البلاء الحسن رفقة أبناء بوب برادلي.
وبعد مضي ثلاثة أيام على مشاركته في مسابقة كرة القدم الأولمبية للرجال ضمن الألعاب التي استضافتها بكين في أغسطس/آب سنة 2008، حيث لعب بنجاح منقطع النظير في مركز قلب الدفاع، سافر موريس إلى اسكتلندا على الفور من أجل إتمام صفقة انتقاله إلى صفوف العملاق جلاسجو رينجرز. فخلال عام ونصف العام، حقق ابن الثالثة والعشرين نجاحات باهرة في الدوري الممتاز بأمريكا الشمالية، بعدما أكمل مرحلة نضجه واشتد عوده، فضمن رسميته داخل تشكيلة المنتخب الوطني، قبل أن يوقع عقداً احترافياً بمبلغ خيالي للدفاع عن قميص أحد أعرق الأندية الأوروبية وأكثرها تتويجاً على الإطلاق.
لكن أيام المجد لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما وجد صاحب القامة الفارعة نفسه يلعب في الفريق الرديف التابع لقلعة آيبروكس، رغم أنه تمكن من إيجاد موطئ قدم له داخل صفوف الفريق الأول خلال النصف الثاني من الموسم، ليساهم نسبياً في تتويج رينجرز بالثنائية. بيد أن إصابة في الركبة عصفت بكل حظوظه في مواصلة بروزه على الساحة من جديد، ليغيب عن احتفالات زملائه بتحقيق لقبي الدوري الممتاز والكأس الاسكتلندية الغالية.
وقد كانت الصدمة أكثر مرارة مما كان يتصور المراقبون، حيث تم إبعاد إيدو عن تشكيلة المنتخب الأمريكي التي أبهرت العالم بأسره في بطولة كأس القارات FIFA التي استضافتها جنوب أفريقيا بعد شهر من ذلك، حيث احتلت كتيبة بوب برادلي مركز الوصيف عن جدارة واستحقاق بعد أداء رائع تخلله فوز كبير على المنتخب المصري قبل الإطاحة بأسبانيا في موقعة المربع الذهبي، ليسقط أبناء العم سام بشق الأنفس أمام العملاق البرازيلي في مباراة نهائية غاية في الإثارة والتشويق، قلب نجوم فيها السامبا تخلفهم بهدفين إلى فوز تاريخي بنتيجة 3-2. وقد كانت تلك البطولة مناسبة ذهبية للاعبين الأمريكيين من أجل إظهار علو كعبهم وكسب التقدير والاحترام على الصعيد الدولي، لكن إيدو تخلف عن الموعد في وقت حساس للغاية.
ولم يتخلص صاحبنا من آثار صدمته هذه حتى حلت به مصيبة أخرى، إذ تعين عليه الانتظار لمدة لا تقل عن سبعة أشهر قبل التعافي من آثار العملية الجراحية التي خضع لها واستكمال فترة النقاهة للظهور من جديد بقميص رينجرز في المنافسات الرسمية. وفي المقابل، نجح ريكاردو كلارك في تعويضه ضمن تشكيلة المنتخب الوطني، حيث تألق بشكل لافت وأظهر انسجاماً واضحاً مع باقي زملائه، ليضمن بذلك مكانته داخل التشكيلة الرسمية ويعصف بآمال إيدو في الانضمام إلى كتيبة الولايات المتحدة المسافرة إلى جنوب أفريقيا شهر يونيو/حزيران القادم لخوض غمار أول مونديال يقام على أرض القارة السمراء.
وفي تصريح خص به موقع FIFA.com خلال مشاركته الأولمبية في الصين، كان موريس قد أعرب عن رغبته الجامحة بالمشاركة في أبرز حدث كروي على الإطلاق، مؤكداً أن " أي لاعب يحلم بحضور نهائيات كأس العالم، وأنا لا أشكل أي استثناء عن هذه القاعدة، إذ أشعر بفخر كبير وأنا أحمل قميص المنتخب الأمريكي، وأتمنى أن أواصل المضي قدماً مع الفريق."
وقد يخطئ من يعتقد أن إيدو قد استسلم لقدره المحتوم، حيث استجمع ابن ولاية كاليفورنيا قواه بشكل كامل فواصل كفاحه داخل ناديه الاسكتلندي، ليكسب في الأخير ثقة الجهاز الفني ويحصل معها على مقعد في دكة البدلاء خلال حملة الكتيبة الزرقاء التي أتت على الأخضر واليابس في المنافسات المحلية. ثم جاءت الفرصة التاريخية يوم 28 فبراير/شباط بمناسبة إجراء موقعة الديربي أمام الغريم التقليدي سيلتيك جلاسجو على أرضية ملعب آيبروكس، حيث بلغت الإثارة ذروتها في منافسات الدوري الاسكتلندي، علماً أن رينجرز كان يملك فرصة ثمينة لتوسيع الفارق الذي يفصله عن جاره اللدود إلى عشر نقاط كاملة.
وما إن حلت الدقيقة 27 حتى أقحم المدرب والتر سميث لاعبه الأمريكي صاحب البنية الجسمانية الكبيرة عندما كانت النتيجة متعادلة على إيقاع البياض، لينطلق بذلك أول فصل من فصول ملحمة تاريخية ستبقى خالدة في الأذهان. إذ لم تمر سوى لحظات قليلة حتى أدرك إيدو شباك السيلتيك في مباراة صعبة ومصيرية، ليُطلق العنان للاحتفالات بعودته إلى ساحة الأضواء وبعث روح جديدة في مسيرته التي مافتئت تتأرجح بين مد وجزر. لكن كرة القدم عودتنا دائماً على تحمل مفاجآت غير سارة، إذ لم يحتسب الحكم هذا الهدف بدعوى لمسة يد أثناء عملية بناء الهجمة، لتتوقف الاحتفالات وتعود الأمور إلى نقطة البداية. ولم يستسلم صاحبنا أمام هذا الوضع المحرج فواصل سعيه الحديث من أجل إعادة الاعتبار لنفسه، حيث توغل داخل منطقة العمليات على بعد ثوانٍ معدودة من نهاية الوقت القانوني فتابع كرة مرتدة من الحارس أرتور بوريتش الذي تصدى لركلة ركنية متقنة، ليسجل الأمريكي أسهل هدف له في حياته والأهم في مسيرته الكروية منذ انتقاله إلى القارة العجوز.
فجر جديد
كان لهدف إيدو في الأنفاس الأخيرة وقع كبير على جماهير قلعة آيبروكس، حيث عمت الفرحة كل المدرجات وتواصلت الأهازيج ومظاهر الاحتفال لساعات طوال، بينما ارتسمت على وجه اللاعب الأمريكي علامات امتزجت فيها عبارات المثابرة والخيبة والعزيمة والشجاعة، إذ علق موريس على هذا الإنجاز قائلاً: "لا شيء على الإطلاق يضاهي روعة هذه اللحظة في مسيرتي، بل وحتى مشاركاتي على المستوى الدولي لا يمكنها أن تضاهي هذه اللحظة التي تُعد الأروع في حياتي. إن عالم كرة القدم مليء بفترات المد والجزر، إذ يتعين على المرء الاستمتاع بلحظات الفرح والسعادة، لكن دون أن يقغ في فخ الانسياق والانغماس في ذلك. أما عندما يمر الإنسان بلحظة فراغ، فلا بد له أن يصارع من أجل التغلب على ذلك والمضي قدما بخظى ثابتة."
يبدو من خلال هذه التصريحات أن ابن كاليفورنيا قد بلغ مرحلة النضج وهو ما يزال في ريعان شبابه، إذ يظهر جلياً أنه استفاد كثيراً من تجاربه القاسية وصراعه ضد القدر. وبعد هدفه الحاسم في مرمى السيلتيك، ضَمن إيدو مشاركته في نهائي كأس دوري اسكتلندا ليساهم في صنع إنجاز تاريخي جديد للرينجرز، بعدما فاز أبناء الكتيبة الزرقاء على سانت ميرن.
أحياناً لا يتعدى الاحتفال بتسجيل هدف لحظات معدودة، وأحياناً أخرى يأخذ أبعاداً كبيرة بحسب قيمته في السياق التاريخي. وربما ينتمي هدف إيدو في شباك بوريتش إلى هذا الصنف الثاني، إذ يبدو أنه كان حاسماً في تغيير مسار مشواره الكروي بشكل مطلق، ولعل المدرب بوب برادلي قد أُعجب بقتالية لاعب خط الوسط العائد إلى الأضواء فسجل باستحسان كبير شجاعته وقوة شخصيته بعد كل ما أصابه من لعنة على مدى أشهر طويلة، فاتحاً أمامه باب العودة إلى المنتخب الأمريكي في آخر مباراة تحضيرية قبل الإعلان عن التشكيلة النهائية التي ستسافر إلى بلاد مانديلا. وقد أبلى لاعب جلاسدو رينجرز البلاء الحسن في المواجهة الودية التي انهزم فيها أبناء العم سام أمام نجوم المنتخب الهولندي، والتي تعتبر أول مشاركة له بقميص الولايات المتحدة بعد تلك المباراة التي لعب فيها أقل من دقيقتين عندما تقابل الفريق الأمريكي مع نظيره السلفادوري في مارس/آذار 2009.
ومن يدري، فقد يكون لإيدو مكان في الرحلة الجوية التي ستقل أعضاء البعثة الأمريكية إلى جنوب أفريقيا هذا العام، بعدما تخلف عن الموعد التاريخي صيف 2009. فقد بات صاحبنا يملك حظوظاً كبيرة لتعويض من عوضه في منافسات كأس القارات، إذ مازال كلارك يصارع من أجل التعافي من لعنة الإصابات واستعادة مستواه بعد مروره بفترة فراغ منذ انتقاله إلى صفوف آينتراخت فرانكفورت الألماني.